علماء يحددون أعضاءك الأكثر شيخوخة قبل ظهور المرض بسنوات

دراسة حديثة تكشف كيف تكشف بلازما الدم عن العمر البيولوجي للأعضاء وعلاقته بالأمراض المزمنة وطول العمر، مع دور أنماط الحياة والأدوية والمكملات في إبطاء الشيخوخة الداخلية.

علماء يحددون أعضاءك الأكثر شيخوخة قبل ظهور المرض بسنوات
دراسة تكشف: أعضاؤك تملك عمرًا خاصًا بها يحدد صحتك المستقبلية


الشيخوخة رحلة طبيعية يمر بها كل إنسان، لكنها ليست مجرد أرقام على بطاقة الهوية أو عدد السنوات التي عشناها، بل هي انعكاس لما يحدث داخل أجسادنا على مستوى الخلايا والأعضاء. ومع التقدم في العمر، تتباطأ عمليات الإصلاح والتجدد في الجسم، فتظهر علامات الضعف تدريجيًا في العضلات والعظام والدماغ والجهاز المناعي. لكن المدهش أن العلم الحديث كشف أن هذه الرحلة ليست حتمية بالسرعة نفسها للجميع، إذ يمكننا إبطاء عقارب الساعة البيولوجية عبر اختيارات يومية ذكية ترتبط بأسلوب حياتنا.
فممارسة النشاط البدني بانتظام، وتبني نظام غذائي متوازن غني بالخضروات والفواكه، والابتعاد عن التدخين والكحول، والنوم الجيد، كلها ليست مجرد نصائح عامة، بل مفاتيح علمية لإطالة العمر الصحي وتأخير مظاهر الشيخوخة. كما أن الحفاظ على النشاط الذهني والاجتماعي والقدرة على التعلم والتواصل ينعكس إيجابًا على الدماغ ويقلل من تباطؤ الوظائف المعرفية مع العمر.

الشيخوخة: تحدي العصر واستثمار المستقبل

تُعدّ الشيخوخة عملية بيولوجية طبيعية تتمثل في التراجع التدريجي في كفاءة أجهزة الجسم ووظائفه الحيوية، بما في ذلك الجهاز العصبي، القلبي الوعائي، والمناعي. هذا التدهور التدريجي يزيد من القابلية للإصابة بالأمراض المزمنة مثل أمراض القلب والسكري ومرض الزهايمر، ويرفع من معدلات الوفيات مع تقدم العمر. ومع ازدياد متوسط العمر المتوقع عالميًا، لم يعد التحدي مقتصرًا على إطالة سنوات الحياة، بل بات التركيز منصبًا على تحسين العمر الصحي (Healthspan)، أي عدد السنوات التي يعيشها الإنسان بصحة جيدة ونشاط دون أمراض مقعدة أو إعاقات مزمنة.

وفقًا لتقديرات منظمة الصحة العالمية، شهد العالم ارتفاعًا ملحوظًا في متوسط العمر المتوقع خلال العقود الأخيرة، ما خلق تحديًا متزايدًا للأنظمة الصحية والاقتصادات الوطنية. هذا الواقع دفع دولًا متقدمة مثل الولايات المتحدة، اليابان، ودول الاتحاد الأوروبي إلى توجيه استثمارات ضخمة نحو أبحاث الشيخوخة والعلوم المرتبطة بها، المعروفة علميًا باسم Geroscience. هذه الأبحاث لا تقتصر على دراسة أسباب الشيخوخة البيولوجية فقط، بل تتوسع إلى تطوير تدخلات دوائية وتقنيات حيوية تهدف إلى إبطاء تدهور الأعضاء، وإطالة العمر الصحي للأفراد.

في هذا الإطار، ظهرت مبادرات عالمية ضخمة تجمع بين القطاعين الأكاديمي والاستثماري، مثل دعم شركات التكنولوجيا الحيوية العاملة على تطوير أدوية تستهدف مسارات الشيخوخة الخلوية، بما في ذلك علاجات إزالة الخلايا الهرمة (Senolytics) أو تعديل المسارات الأيضية مثل mTOR. كما بدأت الأسواق العالمية تتعامل مع أبحاث الشيخوخة كمجال اقتصادي واعد يُقدّر بمليارات الدولارات سنويًا، ويجذب مستثمرين كبارًا يسعون إلى ريادة قطاع يُتوقع أن يغيّر معايير الصحة العامة خلال العقود المقبلة.

التوجّه السعودي نحو أبحاث الشيخوخة

في سياق التحولات العالمية نحو تعزيز العمر الصحي، اتخذت المملكة العربية السعودية خطوات استراتيجية لتعزيز موقعها الريادي في هذا القطاع الناشئ، انسجامًا مع رؤية المملكة 2030 وأهداف برنامج تحول القطاع الصحي. فقد شهدت المملكة ارتفاعًا كبيرًا في متوسط العمر المتوقع من حوالي 46 عامًا في ستينيات القرن الماضي إلى نحو 76 عامًا في عام 2020، وهو ما يعكس التحسن الملحوظ في الخدمات الصحية والوعي المجتمعي.

ومن أبرز المبادرات الوطنية في هذا المجال، إطلاق مؤسسة هيفولوشين (Hevolution Foundation)، وهي مؤسسة غير ربحية تهدف إلى تمويل الأبحاث العلمية والتطبيقات التقنية التي تستهدف إطالة العمر الصحي وتأخير ظهور الأمراض المرتبطة بالشيخوخة. تُعد هيفولوشين إحدى المبادرات المدعومة من صندوق الاستثمارات العامة السعودي (PIF)، وقد رصدت المؤسسة تمويلات تصل إلى مليار دولار سنويًا لدعم الأبحاث والمشاريع الابتكارية حول العالم في مجالات علوم الشيخوخة والطب الحيوي المرتبط بها.

تركز هيفولوشين على دعم مشروعات بحثية رائدة، سواء عبر المنح الأكاديمية للباحثين المحليين والدوليين أو من خلال الاستثمار في شركات ناشئة متخصصة في تقنيات مكافحة الشيخوخة. كما تهدف المؤسسة إلى ضمان وصول العلاجات المستقبلية إلى شريحة أوسع من سكان العالم، بما في ذلك الدول النامية، وإلى تعزيز البنية التحتية البحثية محليًا لدعم الابتكار العلمي في المملكة. هذا التوجه يجعل المملكة لاعبًا محوريًا في مشهد عالمي متنامٍ يسعى إلى تحويل أبحاث الشيخوخة من نطاق الأكاديميا إلى تطبيقات عملية تؤثر مباشرة في الصحة العامة وجودة الحياة.

بهذا التوجه العلمي والاستثماري، تُرسّخ المملكة موقعها ضمن الدول الساعية لقيادة مستقبل أبحاث الشيخوخة، ليس فقط عبر تمويل الدراسات التقليدية، بل أيضًا من خلال دعم الابتكار الحيوي والتقنيات المتقدمة التي تعِد بتغيير جذري في فهمنا للحياة الصحية طويلة الأمد.

الشيخوخة في المملكة

تُعدّ الشيخوخة مرحلة طبيعية في مسار الحياة، إلا أنّ تفاصيلها وما تحمله من تحديات صحية وسلوكية تختلف باختلاف المجتمعات والبيئات التي يعيش فيها الأفراد. وفي المملكة العربية السعودية، ألقى فريق بحثي بقيادة الدكتور ناصر بن دهيم الضوء على هذه المرحلة العمرية من خلال دراسة وصفية شاملة استهدفت فئة كبار السن بعمر ستين عامًا فأكثر، بهدف فهم واقع الشيخوخة ومؤشراتها الصحية والسلوكية في المجتمع السعودي بشكل أقرب إلى الحياة اليومية الحقيقية. تميّزت هذه الدراسة بطبيعتها المجتمعية، حيث شملت عينة واسعة بلغ عدد أفرادها 2,702 مشاركًا من الجنسين، موزعين على مختلف مناطق المملكة، ولم تقتصر على المرضى أو مراجعي المستشفيات والمراكز الصحية كما هو شائع في الدراسات السريرية، بل ركزت على الأصحاء نسبيًا من أفراد المجتمع، وهو ما يمنح نتائجها قيمة خاصة كونها ترسم صورة واقعية لحالة كبار السن بعيدًا عن تحيزات العينات العلاجية.

عبء الأمراض المزمنة والتحديات الصحية

عند النظر إلى الجانب الصحي لكبار السن الذين شملتهم الدراسة، تتكشف صورة معقدة تعكس التداخل بين عدة أمراض مزمنة تترافق مع التقدم في العمر. فقد تبين أن ما يقارب نصف المشاركين (44.7%) يعيشون مع أحد أكثر الأمراض المزمنة شيوعًا، وهما ارتفاع ضغط الدم أو داء السكري من النوع الثاني، بينما ارتفعت نسبة المصابين بارتفاع الكوليسترول في الدم إلى 59.5%، وهو ما يعكس العبء الصحي الذي يرافق أنماط الحياة الحديثة وتقدم العمر معًا. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، إذ أظهرت النتائج أنّ أكثر من نصف المشاركين (52%) يعانون من مرضين مزمنين على الأقل، في حين أن ما يقارب الثلث (32.1%) يتعاملون مع ثلاثة أمراض مزمنة أو أكثر في الوقت ذاته، وهي أرقام تكشف بوضوح عن التحديات المركبة التي قد تواجهها هذه الفئة العمرية في حياتها اليومية. كما كانت أمراض القلب حاضرة بنسبة 19.2% من المشاركين، بينما سجلت أمراض الجهاز التنفسي المزمنة نسبة 12%، لتكتمل صورة الشيخوخة بما تحمله من أعباء جسدية تحتاج إلى متابعة دقيقة وإدارة صحية شاملة.

الصحة النفسية: الجانب الخفي من المعادلة

لم تقتصر الدراسة على قياس المؤشرات الجسدية فقط، بل امتدت لتسليط الضوء على الجانب النفسي الذي يعدّ أحيانًا أقل وضوحًا ولكنه لا يقل أهمية عن الجانب العضوي. فقد أظهرت النتائج أنّ ما يقارب 17.7% من كبار السن معرضون لخطر الإصابة بالاكتئاب أو القلق، وهي نسبة تنبهنا إلى أنّ الشيخوخة ليست مجرد تحدٍ جسدي يرتبط بالأمراض المزمنة، بل هي أيضًا مرحلة قد تتأثر فيها الصحة النفسية نتيجة عوامل متعددة، منها الشعور بالعزلة أو محدودية الحركة أو فقدان الأدوار الاجتماعية المعتادة. هذه المعطيات تجعل من الواضح أنّ الاهتمام بكبار السن يجب أن يكون شاملًا، بحيث يدمج بين الجوانب الطبية والنفسية والاجتماعية معًا.

السلوكيات الصحية وأنماط الحياة

وعند الانتقال إلى أنماط الحياة والسلوكيات الصحية، تكشف الدراسة عن واقع يفرض نفسه بقوة؛ فالغالبية العظمى من المشاركين (88.9%) لا يستهلكون كميات كافية من الفواكه والخضروات، وهو مؤشر على ضعف جودة النظام الغذائي اليومي، بينما لم يحقق متطلبات النشاط البدني الموصى بها سوى 20.1% فقط، ما يعكس نمط حياة يغلب عليه قلة الحركة، والتي تعدّ عاملًا رئيسيًا في زيادة خطر الأمراض المزمنة. ومع ضعف الالتزام بهذه السلوكيات الصحية، لم يكن مفاجئًا أن تكشف الدراسة عن انتشار واسع للسمنة وزيادة الوزن؛ حيث يعاني 30.7% من السمنة و36.4% من زيادة الوزن، أي أن نحو ثلثي كبار السن في المملكة لديهم وزن أعلى من الطبيعي، وهو ما يشكل عبئًا إضافيًا على القلب والمفاصل ويزيد من احتمالية حدوث مضاعفات صحية مستقبلية. أما التدخين فقد بقي حاضرًا في حياة جزء من المشاركين؛ إذ أقر 11.1% بتدخين السجائر يوميًا، فيما يستخدم 5.8% الشيشة بانتظام و5% السجائر الإلكترونية، ما يشير إلى استمرار وجود سلوكيات قد تزيد من المخاطر الصحية لهذه الفئة العمرية.

الصورة الكلية والدلالات

عند جمع هذه النتائج في صورة واحدة، نكتشف أن الشيخوخة في المجتمع السعودي ترتبط بمجموعة متشابكة من التحديات الصحية والنفسية والسلوكية، حيث يتعايش كثير من كبار السن مع أمراض مزمنة متعددة في ظل ضعف الالتزام بأنماط الحياة الصحية، سواء من حيث التغذية أو النشاط البدني أو الامتناع عن التدخين، مع وجود شريحة غير قليلة معرضة لمخاطر نفسية قد تتفاقم إذا لم تحظَ بالاهتمام الكافي. هذه الصورة تضع أمامنا مسؤولية كبيرة في تصميم برامج توعوية ومبادرات وقائية تتجاوز الجانب العلاجي لتشمل تعزيز السلوكيات الصحية، ودعم الصحة النفسية، وتمكين كبار السن من تبني أنماط حياة تضمن لهم جودة حياة أفضل في هذه المرحلة المهمة من العمر.

الشيخوخة البيولوجية للأعضاء: كيف تكشف بلازما الدم عن خريطة العمر الصحي والمرض والموت

لم تعد الشيخوخة تُقاس فقط بعدد السنوات التي يعيشها الإنسان، بل أصبحت تُقرأ اليوم على مستوى الأعضاء البيولوجية التي تحكي قصتها الخاصة عن الزمن، الصحة، والمخاطر المستقبلية. فبينما قد يحمل شخصان العمر الزمني نفسه، قد يختلف عمر قلبيهما أو أدمغتهما البيولوجي اختلافًا جذريًا، بما يحدد احتمال إصابتهما بالأمراض المزمنة أو حتى طول حياتهما. في دراسة رائدة منشورة في مجلة Nature بعنوان:
Plasma proteomics links brain and immune system aging with healthspan and longevity
فتح الباحثون نافذة غير مسبوقة على عالم الشيخوخة الداخلية، باستخدام بصمة البروتينات في بلازما الدم لتقدير عمر 13 عضوًا حيويًا، وربط هذه الأعمار البيولوجية بمخاطر الأمراض والوفيات على مدى متابعة امتدت حتى 17 عامًا.

عمر الأعضاء كمؤشر للتنبؤ بالأمراض المستقبلية

تسعى الدراسات الحديثة في علم الشيخوخة إلى تجاوز مفهوم العمر الزمني التقليدي، والاقتراب أكثر من مفهوم العمر البيولوجي الذي يعكس حالة الأعضاء ووظائفها الفعلية. فالعمر البيولوجي لا يُقاس بالسنوات التي عاشها الإنسان فقط، بل بما تحمله أعضاؤه من علامات التدهور أو الحيوية. وفي هذا السياق، كشفت هذه الدراسة عن نتائج مذهلة توضح كيف يمكن لاختلاف العمر البيولوجي بين الأعضاء أن يقدّم مؤشرات دقيقة للتنبؤ بالأمراض المزمنة قبل ظهورها بسنوات.

اعتمد الباحثون على تحليل شامل شمل 13 فئة من الأعضاء الحيوية، واستخدموا نموذج Cox للانحدار النسبي للمخاطر لقياس العلاقة بين ما يُعرف بـ فجوة عمر العضو (Organ Age Gap) وبين 15 مرضًا مزمنًا من أمراض الشيخوخة، ضمن فترة متابعة تراوحت بين عامين و17 عامًا، مع الأخذ بعين الاعتبار عاملَي العمر والجنس. واللافت أن التحليل الإحصائي بعد تصحيح الاحتمالات المتعددة كشف عن 176 علاقة ارتباط إيجابية ذات دلالة قوية بين فجوات عمر الأعضاء وبين الأمراض المستهدفة، مقابل أربع علاقات عكسية فقط من بين 195 اختبارًا أُجري.

الأمراض الأكثر ارتباطًا بتقدم عمر الأعضاء

جاءت النتائج واضحة في إظهار ارتباط شيخوخة القلب بارتفاع خطر الإصابة بكل من الرجفان الأذيني وفشل القلب، إذ ارتفع خطر الإصابة بفشل القلب بمعدل 1.83 ضعفًا مع كل انحراف معياري واحد في فجوة عمر القلب، فيما بلغ الخطر النسبي للرجفان الأذيني 1.75. ولم يكن القلب وحده في دائرة الضوء؛ فقد ظهر ارتباط وثيق بين شيخوخة البنكرياس والكلى وحدوث الفشل الكلوي المزمن (خطر نسبي 1.80 للبنكرياس و1.66 للكلى)، في حين كانت شيخوخة الدماغ مؤشرًا قويًا للإصابة بمرض ألزهايمر (خطر نسبي 1.80)، أما الرئة المتقدمة في العمر فقد ارتبطت بشكل واضح بزيادة احتمالية الإصابة بمرض الانسداد الرئوي المزمن بنسبة 39%. حتى الكبد، رغم أن قوة الارتباط فيه كانت أضعف نسبيًا، أظهر علاقة واضحة مع الأمراض الكبدية المزمنة.

خصوصية الأعضاء واستقلالية التنبؤ بالأمراض

عند دراسة كل عضو بشكل مستقل، بدت الصورة شاملة؛ فقد أظهرت معظم الأعضاء ارتباطًا قويًا مع مجموعة واسعة من الأمراض المزمنة. إلا أنّ تحليلًا متقدمًا أخذ في الحسبان شيخوخة باقي الأعضاء أظهر خصوصية أكبر للعلاقة بين كل عضو والمرض الذي يستهدفه غالبًا. فمثلًا، كان فشل القلب في البداية مرتبطًا بعمر 13 عضوًا، لكن بعد استبعاد تأثير شيخوخة الأعضاء الأخرى، بقيت سبعة أعضاء فقط ذات ارتباط مستقل.
ومن الملاحظات المفاجئة أن الشرايين الشابة نسبيًا كانت في بعض الحالات مرتبطة بزيادة خطر أمراض مثل السكري من النوع الثاني والانسداد الرئوي المزمن وأمراض الكبد المزمنة، وهي مفارقة تكشف تعقيد العلاقة بين الشيخوخة البيولوجية للأعضاء وحدوث الأمراض.

ألزهايمر: الوجه الأكثر دقة لشيخوخة الدماغ

من بين جميع النتائج، بقي مرض ألزهايمر المثال الأوضح على خصوصية العلاقة بين عمر العضو والمرض؛ فقد ظل الارتباط بين شيخوخة الدماغ وخطر ألزهايمر قويًا سواء عند تحليل الدماغ بمفرده أو عند إدخال أعمار بقية الأعضاء في النموذج الإحصائي، إذ بلغ الخطر النسبي المستقل 1.91 لكل زيادة معيارية في فجوة عمر الدماغ، وهي إشارة دقيقة إلى أن التدهور العصبي المرتبط بالشيخوخة يظل العامل الأبرز في نشوء هذا المرض.

الأعضاء شديدة الشيخوخة والأعضاء الشابة: مفارقة تحدد مصير الصحة

أظهرت التحليلات أن الأفراد الذين يمتلكون بين عضوين وأربعة أعضاء متقدمة في العمر (aged organs) يواجهون خطرًا متزايدًا للإصابة بجميع الأمراض التي تم فحصها تقريبًا، بما في ذلك أمراض القلب، الكلى، الرئة، والدماغ. أما الأعضاء شديدة الشيخوخة على وجه الخصوص، مثل الدماغ والقلب والكلى والرئة، فقد ارتبطت بارتفاع واسع في خطر الإصابة بالأمراض المزمنة، بينما شكّلت الأعضاء الشابة بيولوجيًا (youthful organs) درعًا وقائيًا ضد العديد من الأمراض، أبرزها أمراض الكلى المزمنة والتهاب المفاصل العظمي والانسداد الرئوي المزمن (COPD). الملفت أن الدماغ الشاب وفر حماية واضحة ضد مرض ألزهايمر وأنواع الخرف الأخرى، فيما ارتبط الأمعاء الشابة بانخفاض خطر الإصابة بالسكري من النوع الثاني بنسبة كبيرة (HR = 0.30).

ارتباط العمر البيولوجي بالتصوير الدماغي والبروتينات الدموية

لتأكيد دقة مؤشرات العمر البيولوجي للدماغ، قارن الباحثون بين تقديرات العمر المشتقة من تحليل بروتينات البلازما وتقديرات العمر المأخوذة من التصوير بالرنين المغناطيسي (MRI). أظهرت النتائج أن فجوة عمر الدماغ بناءً على الرنين المغناطيسي ارتبطت بزيادة خطر ألزهايمر بمقدار 3.2 مرة، فيما كانت العلاقة بين الطريقتين ضعيفة نسبيًا (r = 0.18)، ما يشير إلى أن كل منهما يلتقط جانبًا مختلفًا من الشيخوخة الدماغية. على المستوى الجزيئي، حددت الدراسة مجموعة من البروتينات الرئيسية المرتبطة بشيخوخة الدماغ، أبرزها NEFL، وهو بروتين محوري في تدهور المحاور العصبية ويستخدم بالفعل كمؤشر سريري في تجارب ألزهايمر وALS، إضافة إلى بروتينات مثل GFAP وMOG وBCAN، والتي تكشف عن التغيرات في الميالين والخلايا الدبقية والبنية الخلوية للدماغ. المثير أن نصف هذه البروتينات تقريبًا جاء من سلسلة الخلايا قليلة التغصن (oligodendrocytes)، ما يشير إلى أهمية المادة البيضاء كمركز أساسي لتغيرات الشيخوخة العصبية.

تأثير أنماط الحياة: الأعضاء تستجيب لاختياراتنا اليومية

أحد أهم استنتاجات هذه الدراسة أن الشيخوخة البيولوجية ليست قدرًا محتومًا، إذ أظهرت التحليلات أن أنماط الحياة يمكن أن تُبطئ أو تُسرّع شيخوخة الأعضاء. فقد ارتبط التدخين، وتناول الكحول، والإكثار من اللحوم المعالجة، وقلة النوم، إضافة إلى انخفاض المستوى التعليمي، بتسارع الشيخوخة في عدة أعضاء. في المقابل، ارتبطت ممارسة التمارين الرياضية المكثفة، وتناول الأسماك الزيتية والدواجن، ومستويات التعليم الأعلى، بملامح أعضاء أكثر شبابًا بيولوجيًا. هذه النتائج تضع بين أيدينا رسالة واضحة: الخيارات اليومية قد تعيد عقارب الساعة البيولوجية إلى الوراء أو تدفعها إلى الأمام.

تأثير الأدوية والمكملات على شيخوخة الأعضاء

لم تتوقف الدراسة عند حدود رصد العلاقة بين العمر البيولوجي للأعضاء وخطر الأمراض، بل توسعت لاستكشاف أثر الأدوية والمكملات الغذائية على ملامح الشيخوخة الداخلية. قام الباحثون بفحص العلاقة بين فجوات عمر 13 عضوًا بيولوجيًا واستهلاك 137 دواءً أو مكملًا غذائيًا شائع الاستخدام. وبعد إجراء التصحيح الإحصائي للاختبارات المتعددة، برزت ستة منتجات أظهرت ارتباطًا واضحًا بالحفاظ على شباب الأعضاء، وهي:

  1. Premarin (الإستروجين المقرون)

  2. الإيبوبروفين

  3. الجلوكوزامين

  4. زيت كبد الحوت

  5. المكملات المتعددة (Multivitamins)

  6. فيتامين C

اللافت أنّ الإيبوبروفين والجلوكوزامين وزيت كبد الحوت والمكملات المتعددة وفيتامين C ارتبطت بشكل خاص بشباب الكلى والدماغ والبنكرياس، وهي أعضاء شديدة الحساسية للشيخوخة البيولوجية. أما Premarin، وهو دواء إستروجيني يُوصف عادة للنساء بعد سن انقطاع الطمث لتخفيف أعراضه، فقد أظهر ارتباطًا فريدًا بتقليل تسارع شيخوخة الأعضاء.
أظهرت تحليلات إضافية أن النساء اللاتي تعرضن لانقطاع طمث مبكر أو مبكر جدًا أظهرن تسارعًا ملحوظًا في شيخوخة معظم الأعضاء، بينما كان للعلاج بالإستروجين أثر وقائي انعكس في شباب الجهاز المناعي والكبد والشرايين. هذه النتائج، رغم كونها مستعرضة ويجب تفسيرها بحذر، تفتح بابًا لفكرة أنّ التدخلات الهرمونية قد تُبطئ الشيخوخة الداخلية وتقلل من المخاطر الصحية المرتبطة بها.

شباب الدماغ والجهاز المناعي: التوقيع البيولوجي لطول العمر

المرحلة الأخيرة من الدراسة ركزت على الرابط بين العمر البيولوجي للأعضاء وخطر الوفاة لأي سبب عبر متابعة امتدت من سنتين إلى 17 سنة. تم استخدام نموذج Cox للانحدار النسبي للمخاطر مع ضبط العمر والجنس، وأظهرت النتائج أن جميع الأعضاء كانت مرتبطة بزيادة في خطر الوفاة تتراوح بين 20% إلى 60% لكل انحراف معياري واحد في فجوة العمر البيولوجي.
النتائج كانت صادمة في جانبها العصبي؛ إذ برز الدماغ كأقوى مؤشر على طول العمر البشري، حيث ارتبطت زيادة عمره البيولوجي بانخفاض متوسط العمر وارتفاع خطر الوفاة بشكل يفوق باقي الأعضاء (HR = 1.59). هذا الاكتشاف يعيد إلى الأذهان نتائج دراسات أُجريت على الديدان والذباب والفئران، والتي بينت أن الدماغ يلعب دورًا محوريًا في تنظيم العمر عبر تأثيره على الالتهاب الجهازي ووظائف الأعضاء الأخرى. الأفراد ذوو الأدمغة المتقدمة في العمر لم يكونوا معرضين فقط لأمراض الخرف وألزهايمر، بل ارتفعت لديهم معدلات الفشل القلبي والانسداد الرئوي المزمن (COPD)، وهو ما يعكس دور الدماغ المركزي في التحكم في محور الشيخوخة الجسدية والنفسية والمناعية. في المقابل، أظهر شباب الدماغ والجهاز المناعي توقيعًا بيولوجيًا للحماية من الوفاة المبكرة، ما يضع هذه المؤشرات كأدوات مستقبلية قد تسمح للأطباء والعلماء بالتنبؤ بالعمر الصحي للفرد قبل عقود من ظهور أعراض الشيخوخة التقليدية.

في الختام

الشيخوخة ليست لحظة واحدة تنقلب فيها حياتنا، بل هي مسار طويل يتشكل بصمت داخل أجسادنا، حيث تتقدم الأعضاء في العمر بوتيرة مختلفة، وتتداخل الجينات مع السلوكيات اليومية في رسم مصيرنا الصحي. لقد كشف العلم الحديث أن مراقبة العمر البيولوجي للأعضاء تمنحنا فرصة لرؤية ما كان مخفيًا؛ نعرف أي الأعضاء ما زالت شابة وأيها بدأ يشيخ قبل أوانه، لنفهم أن التقدم في العمر ليس قدرًا ثابتًا، بل رحلة يمكن التأثير فيها وتأخير آثارها. إن تبني أسلوب حياة صحي، يجمع بين الحركة المنتظمة، والتغذية المتوازنة، والنوم الجيد، والابتعاد عن التدخين والملوثات، ليس مجرد نصيحة عابرة، بل استثمار طويل الأمد في شباب أعضائنا وحيوية حياتنا. وبينما تفتح الأبحاث الحديثة الباب أمام أدوات تشخيصية وعلاجات مستقبلية لإبطاء الشيخوخة البيولوجية، يبقى القرار الأول والأكثر تأثيرًا في أيدينا نحن؛ في كل وجبة نختارها، وكل خطوة نخطوها، وكل عادة نقرر الالتزام بها أو التخلي عنها.
فالشيخوخة قد تكون حتمية، لكن جودتها وطول العمر الصحي الذي نعيشه يبقيان رهينين لوعينا وخياراتنا اليومية.